فصل: كتاب حد شارب الخمر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب القطع بالإقرار وأنه لا يكتفى فيه بالمرة

1 - عن أبي أمية المخزومي‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أتي بلص فاعترف اعترافًا ولم يوجد معه المتاع فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ ما أخالك سرقت قال‏:‏ بلى مرتين أو ثلاثًا قال فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ اقطعوه ثم جيئوا به قال فقطعوه ثم جاؤوا به فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ قل أستغفر اللّه وأتوب إليه فقال‏:‏ أستغفر اللّه وأتوب إليه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ اللّهم تب عليه‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود والنسائي ولم يقل فيه مرتين أو ثلاثًا وابن ماجه وذكر مرة ثانية فيه‏:‏ ‏(‏قال‏:‏ ما أخالك سرقت قال‏:‏ بلى‏)‏‏.‏

2 - وعن القاسم بن عبد الرحمن‏:‏ ‏(‏عن أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه قال‏:‏ لا يقطع السارق حتى يشهد على نفسه مرتين‏)‏‏.‏

حكاه أحمد في رواية مهنا واحتج به‏.‏

حديث أبي أمية قال الحافظ في بلوغ المرام‏:‏ رجاله ثقات وقال الخطابي‏:‏ إن في إسناده مقالًا قال‏:‏ والحديث إذا رواه رجل مجهول لم يكن حجة ولم يجب الحكم به قال المنذري‏:‏ وكأنه يشير إلى أن أبا المنذر مولى أبي ذر لم يرو عنه إلا إسحاق بن عبد اللّه ابن أبي طلحة من رواية حماد بن سلمة عنه ويشهد له ما سيأتي في الباب الذي بعد هذا وفي الباب آثار عن جماعة من الصحابة‏.‏ منها عن أبي الدرداء أنه أتي بجارية سرقت فقال لها أسرقت قولي لا فقالت لا فخلى سبيلها‏.‏ وعن عطاء عند عبد الرزاق أنه قال‏:‏ كان من مضى يؤتى إليهم بالسارق فيقول أسرقت‏؟‏ قل لا‏!‏ وسمى أبو بكر وعمر وأخرج أيضًا عن عمر بن الخطاب أتي برجل فسأله أسرقت قل لا فقال لا فتركه‏.‏ وعن أبي هريرة عند ابن أبي شيبة أن أبا هريرة أتي بسارق فقال أسرقت قل لا مرتين أو ثلاثًا‏.‏ وعن أبي مسعود الأنصاري في جامع سفيان أن امرأة سرقت جملًا فقال أسرقت قولي لا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما أخالك سرقت‏)‏ بفتح الهمزة وكسرها أي ما أظنك سرقت وفي ذلك دليل على أنه يستحب تلقين ما يسقط الحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مرتين أو ثلاثًا‏)‏ استدل به من قال إن الإقرار بالسرقة مرة واحدة لا يكفي بل لا بد من الإقرار مرتين أو ثلاثًا وأقل ما يلزم به القطع مرتان وإلى ذلك ذهبت العترة وابن أبي ليلى وابن شبرمة وأحمد بن حنبل وإسحاق وروي عن أبي يوسف‏.‏ وذهب مالك والشافعية والحنفية وهو مروي عن أبي يوسف إلى أنه يكفي الإقرار مرة ويجاب عن الاستدلال بحديث أبي أمية المذكور أنه لا يدل على اشتراط الإقرار مرتين وإنما يدل على أنه يندب له تلقين المسقط للحد عنه والمبالغة في الاستثبات ومما يدل على أن هذا هو المراد أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ لا أخالك سرقت ثلاث مرات في رواية ولا قائل بأنه يشترط ثلاث مرات ولو كان مجرد الفعل يدل على الشرطية لكان وقوع التكرار منه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثلاث مرات يقتضي اشتراطها وقد تقدم في حديث المجن ورداء صفوان أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قطع ولم ينقل في ذلك تكرير الإقرار وأما الاحتجاج بما روي عن علي عليه السلام كما ذكره المصنف فهو وإن كانت الصيغة مشعرة باشتراط الإقرار مرتين لكنه لا تقوم به الحجة إلا عند من يرى حجية قوله كما ذهب إليه بعض الزيدية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قل أستغفر اللّه‏)‏ فيه دليل على مشروعية أمر المحدود بالاستغفار والدعاء له بالتوبة بعد استغفاره ‏.‏

 باب حسم يد السارق إذا قطعت واستحباب تعليقها في عنقه

1 - عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أتي بسارق قد سرق شملة فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه إن هذا قد سرق فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم‏:‏ ما أخاله سرق فقال السارق‏:‏ بلى يا رسول اللّه فقال‏:‏ اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به فقطع فأتي به فقال‏:‏ تب إلى اللّه قال‏:‏ قد تبت إلى اللّه فقال‏:‏ تاب اللّه عليك‏)‏‏.‏

رواه الدارقطني‏.‏

2 - وعن عبد الرحمن بن محيريز قال‏:‏ ‏(‏سألنا فضالة بن عبيد عن تعليق اليد في عنق السارق أمن السنة قال‏:‏ أتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه‏)‏‏.‏

رواه الخمسة إلا أحمد وفي إسناده الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف‏.‏

حديث أبي هريرة أخرجه موصولًا أيضًا الحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان وأخرجه أبو داود في المراسيل من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان بدون ذكر أبي هريرة ورجح المرسل ابن خزيمة وابن المديني وغير واحد‏.‏

وحديث عبد الرحمن بن محيريز قال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن علي المقدمي عن الحجاج بن أرطأة وعبد الرحمن بن محيريز هو أخو عبد اللّه ابن محيريز شامي انتهى‏.‏

وقال النسائي‏:‏ الحجاج بن أرطأة ضعيف لا يحتج بحديثه قال المنذري‏:‏ وهذا الذي قاله النسائي قاله غير واحد من الأئمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم احسموه‏)‏ ظاهره أن الحسم واجب والمراد به الكي بالنار أي يكوى محل القطع لينقطع الدم لأن منافذ الدم تنسد به لأنه ربما استرسل الدم فيؤدي إلى التلف وذكر في البحر أنه إذا كره السارق الحسم لم يحسم له وجعله مندوبًا فقط مع رضاه وفي كل من الطرفين نظر أما الأول فلأن ترك الحسم إذا كان مؤديًا إلى التلف وجب علينا عدم الإجابة له إلى ما يؤدي إلى تلفه وأما الثاني فلأن ظاهر الحديث الوجوب لكونه أمرًا ولا صارف له من معناه الحقيقي ولا سيما مع كونه يؤدي الترك إلى التلف فإنه يصير واجبًا من جهة أخرى قال في البحر‏:‏ وثمن الدهن وأجرة القطع من بيت المال ثم من مال السارق فإن اختار أن يقطع نفسه فوجهان قال الإمام يحيى‏:‏ لا يمكن كالقصاص وسائر الحدود وقيل يمكن لحصول الزجر انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فعلقت في عنقه‏)‏ فيه دليل على مشروعية تعليق يد السارق في عنقه لأن في ذلك من الزجر ما لا مزيد عليه فإن السارق ينظر إليها مقطوعة معلقة فيتذكر السبب لذلك وما جر إليه ذلك الأمر من الخسار بمفارقة ذلك العضو النفيس وكذلك الغير يحصل له بمشاهدة اليد على تلك الصورة من الانزجار ما تنقطع به وساوسه الرديئة‏.‏

وأخرج البيهقي أن عليًا رضي اللّه عنه قطع سارقًا فمروا به ويده معلقة في عنقه‏.‏

 باب ما جاء في السارق يوهب السرقة بعد وجوب القطع والشفع فيه

1 - عن عبد اللّه بن عمر‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب‏)‏‏.‏

رواه النسائي وأبو داود‏.‏

2 - وعن عائشة‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود‏.‏

3 - وعن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن‏:‏ ‏(‏أن الزبير بن العوام لقي رجلًا قد أخذ سارقًا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله فقال لا حتى أبلغ به السلطان فقال الزبير إذا بلغت به السلطان فلعن اللّه الشافع والمشفع‏)‏‏.‏

رواه مالك في الموطأ‏.‏

4 - وعن عائشة‏:‏ ‏(‏أن قريشًا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت قالوا من يكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال‏:‏ أتشفع في حد من حدود اللّه ثم قام فخطب فقال‏:‏ يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم اللّه لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

حديث عبد اللّه بن عمرو أخرجه أيضًا الحاكم وصححه وسكت عنه أبو داود وهو من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال في الفتح‏:‏ وسنده إلى عمرو بن شعيب صحيح والواقع فيما وقفنا عليه من نسخ هذا الكتاب عبد اللّه بن عمر بدون واو ولعله غلط من الناسخ‏.‏

وحديث عائشة الأول أخرجه أيضًا النسائي وابن عدي والعقيلي وقال له طرق وليس فيها شيء يثبت وذكره ابن طاهر في تخريج أحاديث الشهاب من رواية عبد اللّه بن هارون بن موسى الفروي عن القعنبي عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن أنس وقال الإسناد باطل والحمل فيه على الفروي ورواه الشافعي وابن حبان في صحيحه وابن عدي أيضًا والبيهقي من حديث عائشة بلفظ‏:‏ ‏(‏أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم‏)‏ ولم يذكر ما بعده قال الشافعي وسمعت من أهل العلم من يعرف هذا الحديث ويقول يتجاوز للرجل من ذوي الهيئات عثرته ما لم يكن حدًا وقال عبد الحق‏:‏ ذكره ابن عدي في باب واصل بن عبد الرحمن الرقاشي ولم يذكر له علة قال الحافظ‏:‏ وواصل هو أبو حرة ضعيف وفي إسناد ابن حبان أبو بكر بن نافع وقد نص أبو زرعة على ضعفه في هذا الحديث ‏(‏وفي الباب‏)‏ عن ابن عمر رواه أبو الشيخ في كتاب الحدود بإسناد ضعيف وعن ابن مسعود رفعه‏:‏ ‏(‏تجاوزوا عن ذنب السخي فإن اللّه يأخذ بيده عند عثراته‏)‏ ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف‏.‏ وأثر الزبير المذكور أخرجه أيضًا الطبراني قال في الفتح‏:‏ وإسناده منقطع مع وقفه وهو عند ابن أبي شيبة بسند حسن عن الزبير‏.‏

وفي حديث عبد اللّه بن عمرو دليل على مشروعية المعافاة في الحدود قبل الرفع إلى الإمام لا بعده وقد تقدم الكلام على ذلك‏.‏

وحديث عائشة فيه دليل على أنه يشرع إقالة أرباب الهيئات إن وقعت منهم الزلة نادرًا والهيئة صورة الشيء وشكله وحالته ومراده أهل الهيئات الحسنة والعثرات جمع عثرة والمراد بها الزلة كما وقع في الرواية المذكورة قال الشافعي‏:‏ وروي الهيئات الذين يقالون عثراتهم الذين ليسوا يعرفون بالشر فيزل أحدهم الزلة‏.‏

وقال الماوردي‏:‏ في تفسير العثرات المذكورة وجهان‏:‏ أحدهما الصغائر‏.‏ والثاني أول معصية زل فيها مطيع والمراد بقوله إلا الحدود أي فإنها لا تقال بل تقام على ذي الهيئة وغيره بعدد الرفع إلى الإمام وأما قبله فيستحب الستر مطلقًا لما في حديث أبي هريرة عند الترمذي من حديث‏:‏ ‏(‏ومن ستر على مسلم ستره اللّه في الدنيا والآخرة‏)‏ وأخرجه أيضًا الحاكم ورواه الترمذي من حديث ابن عمر ورواه أبو نعيم في معرفة الصحابة من حديث مسلمة بن مخلد مرفوعًا‏:‏ ‏(‏من ستر مسلمًا في الدنيا ستره اللّه في الدنيا والآخرة‏)‏ وروى ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعًا‏:‏ ‏(‏من ستر عورة أخيه المسلم ستر اللّه عورته يوم القيامة ومن كشف عورة أخيه كشف اللّه عورته حتى يفضحه في بيته‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلعن اللّه الشافع والمشفع‏)‏ فيه التشديد في الشفاعة في الحدود بعد الرفع وقد تقدم الكلام على حديث المخزومية الذي ذكره المصنف‏.‏

 باب في حد القطع وغيره هل يستوفى في دار الحرب أم لا

1 - عن بسر بن أرطأة‏:‏ ‏(‏أنه وجد رجلًا يسرق في الغزو فجلده ولم يقطع يده وقال‏:‏ نهانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن القطع في الغزو‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود والنسائي وللترمذي منه المرفوع‏.‏

2 - وعن عبادة بن الصامت‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ جاهدوا الناس في اللّه القريب والبعيد ولا تبالوا في اللّه لومة لائم وأقيموا حدود اللّه في الحضر والسفر‏)‏‏.‏

رواه عبد اللّه بن أحمد في مسند أبيه‏.‏

حديث بسر بن أرطأة سكت عنه أبو داود وقال الترمذي غريب ورجال إسناده عند أبي داود ثقات إلى بسر وفي إسناد الترمذي ابن لهيعة وفي إسناد النسائي بقية بن الوليد واختلف في صحبة بسر المذكور وهو بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة وبعدها راء قرشي عامري كنيته أبو عبد الرحمن فقيل له صحبة وقيل لا صحبة له وإن مولده بعد وفاة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وله أخبار مشهورة وكان يحيى بن معين لا يحسن الثناء عليه‏.‏

قال المنذري‏:‏ وهذا يدل أنه عنده لا صحبة له ونقل في الخلاصة عن ابن معين أنه قال لا صحبة له وأنه رجل سوء ولى اليمن وله بها آثار قبيحة انتهى‏.‏ ونقل عبد الغني أن حديثه في الدعاء فيه التصريح بسماعه من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد غمزه الدارقطني ولا يرتاب منصف أن الرجل ليس بأهل للرواية وقد فعل في الإسلام أفاعيل لا تصدر عمن في قلبه مثقال حبة من إيمان كما تضمنت ذلك كتب التاريخ المعتبرة فثبوت صحبته لا يرفع القدح عنه على ما هو المذهب الراجح بل هو إجماع لا يختلف فيه أهل العلم كما حققنا ذلك في غير هذا الموضع وحققه العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في تنقيحه ولكن إذا كان المناط في قبول الرواية هو تحري الصدق وعدم الكذب فلا ملازمة بين القدح في العدالة وعدم قبول الرواية وهذا يتمشى على قول من قال أن الكفر والفسق مظنة تهمة لا من قال أنهما سلب أهلية على ما تقرر في الأصول‏.‏

وحديث عبادة بن الصامت أخرج أوله الطبراني في الأوسط والكبير قال في مجمع الزوائد‏:‏ وأسانيد أحمد وغيره ثقات يشهد لصحته عمومات الكتاب والسنة وإطلاقاتهما لعدم الفرق فيها بين القريب والبعيد والمقيم والمسافر ولا معارضة بين الحديثين لأن حديث بسر أخص مطلقًا من حديث عبادة فيبنى العام على الخاص وبيانه أن السفر المذكور في حديث عبادة أعم مطلقًا من الغزو المذكور في حديث بسر لأنه المسافر قد يكون غازيًا وقد لا يكون وأيضًا حديث بسر في حد السرقة وحديث عبادة في عموم الحد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فجلده‏)‏ فيه إجمال لعدم ذكر عدد الجلد والظاهر أن أمر ذلك إلى الإمام كسائر التعزيرات‏.‏

 كتاب حد شارب الخمر

1 - عن أنس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين قال وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر‏)‏‏.‏

رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه‏.‏

2 - وعن أنس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر أربعين‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

3 - وعن عقبة بن الحارث قال‏:‏ ‏(‏جيء بالنعمان أو ابن النعمان شاربًا فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من كان في البيت أن يضربوه فكنت فيمن ضربه فضربناه بالنعال والجريد‏)‏‏.‏

4 - وعن السائب بن يزيد قال‏:‏ ‏(‏كنا نؤتى بالشارب في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وفي إمرة أبي بكر وصدرًا من إمرة عمر فنقوم إليه نضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان صدرًا من إمرة عمر فجلد فيها أربعين حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين‏)‏‏.‏

رواهما أحمد والبخاري‏.‏

5 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏أتي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم برجل قد شرب فقال‏:‏ اضربوه فقال أبو هريرة‏:‏ فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه فلما انصرف قال بعض القوم‏:‏ أخزاك اللّه قال‏:‏ لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان‏)‏‏.‏

رواه أحمد والبخاري وأبو داود‏.‏

6 - وعن حضين بن المنذر قال‏:‏ ‏(‏شهدت عثمان بن عفان أتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال‏:‏ أزيدكم فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر وشهد آخر أنه رآه يتقيؤها فقال عثمان‏:‏ أنه لم يتقيأها حتى شربها فقال‏:‏ يا علي قم فاجلده فقال علي‏:‏ قم يا حسن فاجلده فقال الحسن‏:‏ ولِ حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه فقال‏:‏ يا عبد اللّه بن جعفر قم فاجلده فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال‏:‏ أمسك ثم قال‏:‏ جلد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي‏)‏‏.‏

%- رواه مسلم وفيه من الفقه أن للوكيل أن يوكل وأن الشهادتين على شيئين إذا آل معناهما إلى شيء واحد جمعتا جائزة كالشهادة على البيع والإقرار به أو على القتل والإقرار به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قد شرب الخمر‏)‏ اعلم أن الخمر يطلق على عصير العنب المشتد إطلاقًا حقيقيًا إجماعًا واختلفوا هل يطلق على غيره حقيقة أو مجازًا وعلى الثاني هل مجاز لغة كما جزم به صاحب المحكم‏.‏

قال صاحب الهداية من الحنفية‏:‏ الخمر عندنا ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم انتهى‏.‏ أو من باب القياس على الخمر الحقيقية عند من يثبت التسمية بالقياس وقد صرح في الراغب أن الخمر عند البعض اسم لكل مسكر وعند بعض للمتخذ من العنب والتمر وعند بعضهم لغير المطبوخ ورجح أن كل شيء بستر العقل يسمى خمرًا لأنها سميت بذلك لمخامرتها للعقل وسترها له وكذا قال جماعة من أهل اللغة منهم الجوهري وأبو نصر القشيري والدينوري وصاحب القاموس ويؤيد ذلك أنها حرمت بالمدينة وما كان شرابهم يومئذ إلا نبيذ البسر والتمر ويؤيده أيضًا أن الخمر في الأصل الستر ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها والتغطية ومنه خمروا آنيتكم أي غطوها والمخالطة ومنه خامره داء أي خالطه والإدراك ومنه اختمر العجين أي بلغ وقت إدراكه قال ابن عبد البر‏:‏ الأوجه كلها موجودة في الخمر لأنها تركت حتى أدركت وسكنت فإذا شربت خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه ونقل عن ابن الأعرابي أنه قال‏:‏ سميت الخمر خمرًا لأنها تركت حتى اختمرت واختمارها تغير رائحتها قال الخطابي‏:‏ زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب فيقال لهم إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمرًا عرب فصحاء فلو لم يكن هذا الاسم صحيحًا لما أطلقوه انتهى‏.‏

ويجاب بإمكان أن يكون ذلك الإطلاق الواقع منهم شرعيًا لا لغويًا وأما الاستدلال على اختصاص الخمر بعصير العنب بقوله تعالى ‏{‏إني أراني أعصر خمرًا‏}‏ ففاسد لأن الصيغة لا دليل فيها على الحصر المدعي وذكر شيء بحكم لا ينفي ما عداه وقد روى ابن عبد البر عن أهل المدينة وسائر الحجازيين وأهل الحديث كلهم أن كل مسكر خمر‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ الأحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها وكثرتها تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب وما كان من غيره لا يسمى خمرًا ولا يتناوله اسم الخمر وهو قول مخالف للغة العرب وللسنة الصحيحة وللصحابة لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر بالاجتناب تحريم كل ما يسكر ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره بل سووا بينهما وحرموا كل ما يسكر نوعه ولم يتوقفوا ولم يستفصلوا ولم يشكل عليهم شيء من ذلك بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن فلو كان عندهم تردد لتوقفوا عن الإراقة حتى يستفصلوا ويتحققوا التحريم وقد أخرج أحمد في مسنده عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال‏:‏ من الحنطة خمر ومن الشعير خمر ومن التمر خمر ومن الزبيب خمر ومن العسل خمر‏.‏

وروي أيضًا أنه خطب عمر على المنبر وقال‏:‏ ألا إن الخمر قد حرمت وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل‏.‏ وهو في الصحيحين وغيرهما وهو من أهل اللغة وتعقب بأن ذلك يمكن أن يكون إطلاقًا للاسم الشرعي لا اللغوي فيكون حقيقة شرعية قال ابن المنذر‏:‏ القائل بأن الخمر من العنب وغيره عمر وعلي وسعد وابن عمر وأبو موسى وأبو هريرة وابن عباس وعائشة ومن غيرهم ابن المسيب والشافعي وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث وحكاه في البحر عن الجماعة المذكورين من الصحابة إلا أبا موسى وعائشة وعن المذكورين من غيرهم إلا ابن المسيب وزاد العترة ومالكًا والأوزاعي وقال‏:‏ إنه يكفر مستحل خمر الشجرتين ويفسق مستحل ما عداهما ولا يكفر لهذا الخلاف ثم قال‏:‏ فرع وتحريم سائر المسكرات بالسنة والقياس فقط إذ لا يسمى خمرًا إلا مجازًا وقيل بهما وبالقرآن لتسميتها خمرًا في حديث‏:‏ ‏(‏إن من التمر خمرًا‏)‏ الخبر وقول أبي موسى وابن عمر الخمر ما خامر العقل قلنا مجاز انتهى‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أحاديث منها ما هو بلفظ‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر كل مسكر حرام‏)‏ ومنها ما هو بلفظ‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر وكل خمر حرام‏)‏ ومنها ما هو بلفظ‏:‏ ‏(‏كل شراب أسكر فهو حرام‏)‏ وهذا لا يفيد المطلوب وهو كونها حقيقة في غير عصير العنب أو مجازًا لأن هذه الأحاديث غاية ما يثبت بها أن المسكر على عمومه يقال له خمر ويحكم بتحريمه وهذه حقيقة شرعية لا لغوية وقد صرح الخطابي بمثل هذا وقال‏:‏ إن مسمى الخمر كان مجهولًا عند المخاطبين حتى بينه الشارع بأنه ما أسكر فصار ذلك كلفظ الصلاة والزكاة وغيرهما من الحقائق الشرعية وقد عرفت ما سلف عن أهل اللغة من الخلاف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجلد بجريدتين نحو أربعين‏)‏ الجريد سعف النخل وفي ذلك دليل على مشروعية أن يكون الجلد بالجريد وإليه ذهب بعض الشافعية وقد صرح القاضي أبو الطيب ومن تبعه بأنه لا يجوز بالسوط وصرح القاضي حسين بتعين السوط واحتج بأنه إجماع الصحابة وخالفه النووي في شرح مسلم فقال‏:‏ أجمعوا على الاكتفاء بالجريد والنعال وأطراف الثياب ثم قال‏:‏ والأصح جوازه بالسوط وحكى الحافظ عن بعض المتأخرين أنه يتعين السوط للمتمردين وأطراف الثياب والنعال للضعفاء ومن عداهم بحسب ما يليق بهم وهذه الرواية مصرحة بأن الأربعين كانت بجريدتين وفي رواية للنسائي أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ضربه بالنعال نحوًا من أربعين‏.‏

وفي رواية لأحمد والبيهقي فأمر نحوًا من عشرين رجلًا فجلده كل واحد جلدتين بالجريد والنعال فيجمع بأن جملة الضربات كانت نحو أربعين إلا أن كل جلدة بجريدتين وهذا الجمع باعتبار مجرد الضرب بالجريد وهو مبين لما أجمل في الرواية المذكورة في حديث أنس بلفظ‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال‏)‏ وكذلك ما في سائر الروايات المجملة ولكن الجمع بين الضرب بالجريد والنعال في روايات الباب يدل على أن الضرب بهما غير مقدر بحد لأنها إذا كانت الضربات بالجريد مقدرة بذلك المقدار فلم يأت ما يدل على تقدير الضربات بالنعال إلا رواية النسائي المتقدمة فإنها مصرحة أن الضرب كان بالنعال فقط نحوًا من أربعين وورد أيضًا الضرب بالأردية كما في رواية السائب بن يزيد المذكورة وفي حديث علي المذكور في جلد الوليد تصريح بأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جلد أربعين وهو يخالف ما سيأتي من حديثه أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يسن في ذلك سنة ويمكن الجمع بأن المراد بالسنة المذكورة في الحديث الآتي هي الطريقة المستمرة وفعل الأربعين في مرة واحدة لا يستلزم أن يكون ذلك سنة مع عدم الاستمرار كما في سائر الروايات وقيل تحمل رواية الأربعين على التقريب دون التحديد ويمكن الجمع أيضًا بما سيأتي أنه جلد الوليد بسوط له طرفان فكان الضرب باعتبار المجموع أربعين وبالنظر إلى الحاصل من كل واحد من الطرفين ثمانين وقد ضعف الطحاوي هذه الرواية التي فيها التصريح بأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جلد أربعين لعبد اللّه بن فيروز أو يجاب بأنه قوى الحديث البخاري كما روى ذلك الترمذي عنه‏.‏ ووثق عبد اللّه المذكور أبو زرعة والنسائي وإخراج مسلم له دليل على أنه من المقبولين وقال ابن عبد البر‏:‏ إن هذا الحديث أثبت شيء في هذا الباب واستدل الطحاوي على ضعف الحديث بقوله فيه وكل سنة الخ قال‏:‏ لأن عليًا لا يرجح فعل عمر على فعل النبي بناء منه على أن قول علي وهذا أحب إليَّ إشارة إلى الثمانين التي فعلها عمر وليس الأمر كذلك بل المشار إليه هو الجلد الواقع بين يديه في تلك الحال وهو أربعون كما يشعر بذلك الظاهر ولكنه يشكل من وجه آخر وهو أن الكل من فعل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وعمر لا يكون سنة بل السنة فعل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقط وقد قيل إن المراد أن ذلك جائز قد وقع لا محذور فيه

ويمكن أن يقال إن إطلاق السنة على فعل الخلفاء لا بأس به لما في حديث العرباض بن سارية عند أهل السنن بلفظ‏:‏ ‏(‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين عضوا عليها بالنواجذ‏)‏ الحديث يمكن أن يقال المراد بالسنة الطريقة المألوفة وقد ألف الناس ذلك في زمن عمر كما ألفوا الأربعين في زمن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وزمن أبي بكر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخف الحدود ثمانين‏)‏ هكذا ثبت بالياء قال ابن دقيق العيد‏:‏ حذف عامل النصب والتقدير اجعله ثمانين وقيل التقدير أجده ثمانين‏.‏ وقيل التقدير أرى أن نجعله ثمانين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏النعمان أو ابن النعمان‏)‏ هكذا في نسخ هذا الكتاب مكبرًا وفي صحيح البخاري النعيمان أو ابن النعيمان بالتصغير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعن حضين‏)‏ بفتح الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا تعينوا عليه الشيطان‏)‏ في ذلك دليل على أنه لا يجوز الدعاء على من أقيم عليه الحد لما في ذلك من إعانة الشيطان عليه وقد تقدم في حديث جلد الأمة النهي للسيد عن التثريب عليها وتقدم أيضًا أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر السارق بالتوبة فلما تاب قال تاب اللّه عليك وهكذا ينبغي أن يكون الأمر في سائر المحدودين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنه لم يتقيأها حتى شربها‏)‏ فيه دليل على أنه يكفي في ثبوت حد الشرب شاهدان أحدهما يشهد على الشرب والآخر على القيء ووجه الاستدلال بذلك أنه وقع بمجمع من الصحابة ولم ينكر وإليه ذهب مالك والناصر والقاسمية‏.‏ وذهبت الشافعية والحنفية إلى أنه لا يكفي ذلك للاحتمال لإمكان أن يكون المتقيء لها مكرهًا على شربها أو نحو ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ول حارها‏)‏ بحاء مهملة وبعد الألف راء مشددة قال في القاموس‏:‏ والحار من العمل شاقه وشديده‏.‏ اهـ

وقارها بالقاف وبعد الألف راء مشددة أي ما لا مشقة فيه من الأعمال والمراد ول الأعمال الشاقة من تولى الأعمال التي لا مشقة فيها استعار للمشقة الحر ولما لا مشقة فيه البرد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جمعتا‏)‏ بضم الجيم وفتح الميم والعين لفظ تأكيد للشهادتين كما يقال جمع لتأكيد ما فوق الاثنتين وفي بعض النسخ جميعًا وهو الصواب‏.‏

والأحاديث المذكورة في الباب فيها دليل على مشروعية حد الشرب وقد ادعى القاضي عياض الإجماع على ذلك‏.‏ وقال في البحر‏:‏ مسألة ولا ينقص حده عن الأربعين إجماعًا وذكر أن الخلاف إنما هو في الزيادة على الأربعين وحكى ابن المنذر والطبري وغيرهما عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حد فيها وإنما فيها التعزير واستدلوا بالأحاديث المروية عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعن الصحابة من الضرب بالجريد والنعال والأردية وبما أخرجه عبد الرزاق عن الزهري أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يفرض في الخمر حدًا وإنما كان يأمر من حضره أن يضربوه بأيديهم ونعالهم حتى يقول لهم ارفعوا‏.‏

وأخرج أبو داود والنسائي بسند قوي عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يوقت في الخمر حدًا وبما سيأتي في باب من وجد منه سكر أو ريح وأجيب بأنه قد انعقد إجماع الصحابة على جلد الشارب واختلافهم في العدد إنما هو بعد الاتفاق على ثبوت مطلق الجلد وسيأتي في الباب المشار إليه الجواب عن بعض ما تمسكوا به وقد ذهبت العترة ومالك والليث وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي في قول له إلى أن حد السكران ثمانون جلدة‏.‏ وذهب أحمد وداود وأبو ثور والشافعي في المشهور عنه إلى أنه أربعون لأنها هي التي كانت في زمنه صلى اللّه عليه وآله وسلم وزمن أبي بكر وفعلها علي في زمن عثمان كما سلف واستدل الأولون بأن عمر جلد ثمانين بعد ما استشار الصحابة كما سلف وبما سيأتي عن علي أنه أفتى بأنه يجلد ثمانين وبما في حديث أنس المذكور أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جلد في الخمر نحو أربعين بجريدتين‏.‏

والحاصل أن دعوى إجماع الصحابة غير مسلمة فإن اختلافهم في ذلك قبل إمارة عمر وبعدها وردت به الروايات الصحيحة ولم يثبت عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الاقتصار على مقدار معين بل جلد تارة بالجريد وتارة بالنعال وتارة بهما فقط وتارة بهما مع الثياب وتارة بالأيدي والنعال والمنقول من المقادير في ذلك إنما هو بطريق التخمين ولهذا قال أنس نحو أربعين والجزم المذكور في رواية علي بالأربعين يعارضه ما سيأتي من أنه ليس في ذلك عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سنة فالأولى الاقتصار على ما ورد عن الشارع من الأفعال وتكون جميعها جائزة فأيها وقع فقد حصل به الجلد المشروع الذي أرشدنا إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالفعل والقول كما في حديث من شرب الخمر فاجلدوه وسيأتي فالجلد المأمور به هو الجلد الذي وقع منه صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن الصحابة بين يديه ولا دليل يقتضي تحتم مقدار معين لا يجوز غيره لا يقال الزيادة مقبولة فيتعين المصير إليها وهي رواية الثمانين لأنا نقول هي زيادة شاذة لم يذكرها إلا ابن دحية فإنه قال في كتاب وهج الجمر في تحريم الخمر صح عن عمر أنه قال‏:‏ لقد هممت أن أكتب في المصحف أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم جلد في الخمر ثمانين وقد قال الحافظ في التلخيص أنه لم يسبق ابن دحية إلى تصحيحه‏.‏ وحكى ابن الطلاع أن في مصنف عبد الرزاق أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم جلد في الخمر أربعين وورد من طريق لا تصح أنه جلد ثمانين انتهى‏.‏ وهكذا ما رواه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن أزهر أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر بجلد الشارب أربعين فإنه قال ابن أبي حاتم في العلل سأل أبي عنه فقال لم يسمعه الزهري عن عبد الرحمن بل عن عقيل بن خالد عنه ولو صح لكان من جملة الأنواع التي يجوز فعلها لا أنه هو المتعين لمعارضة غيره له على أنه قد رواه الشافعي عن عبد الرحمن المذكور بلفظ‏:‏ ‏(‏أتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بشارب فقال‏:‏ اضربوه فضربوه بالأيدي والنعال‏)‏ ومن ذلك حديث أبي سعيد عند الترمذي وقال حسن أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ضرب في الخمر بنعلين أربعين وسيأتي ومما يؤيد عدم ثبوت مقدار معين عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم طلب عمر للمشورة من الصحابة فأشاروا عليه بآرائهم ولو كان قد ثبت تقديره عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لما جهله جميع أكابر الصحابة‏.‏

1 - وعن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي اللّه عنه قال‏:‏ ‏(‏ما كنت لأقيم حدًا على أحد فيموت وأجد في نفسي منه شيئًا إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يسنه‏)‏‏.‏

متفق عليه وهو لأبي داود وابن ماجه وقالا فيه لم يسن فيه شيئًا إنما قلناه نحن قلت ومعنى لم يسنه يعني لم يقدره ويوقته بلفظه ونطقه‏.‏

2 - وعن أبي سعيد قال‏:‏ ‏(‏جلد على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الخمر بنعلين أربعين فلما كان زمن عمر جعل بدل كل نعل سوطًا‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

3 - وعن عبيد اللّه عدي بن الخيار أنه قال لعثمان‏:‏ ‏(‏قد أكثر الناس في الوليد فقال سنأخذ منه بالحق إن شاء اللّه تعالى ثم دعا أمير المؤمنين عليًا فأمره أن يجلده فجلده ثمانين‏)‏‏.‏

مختصرًا من البخاري وفي رواية له أربعين ويتوجه الجمع بينهما بما رواه أبو جعفر محمد بن علي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام جلد الوليد بسوط له طرفان رواه الشافعي في مسنده‏.‏

4 - وعن أبي سعيد قال‏:‏ ‏(‏أتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم برجل نشوان فقال‏:‏ إني لم أشرب خمرًا إنما شربت زبيبًا وتمرًا في دباءة قال‏:‏ فأمر به فنهز بالأيدي وخفق بالنعال ونهى عن الدباء ونهى عن الزبيب والتمر يعني أن يخلطا‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

5 - وعن السائب بن يزيد‏:‏ ‏(‏أن عمر خرج عليهم فقال‏:‏ إني وجدت من فلان ريح شراب فزعم أنه شرب الطلاء وإني سائل عما شرب فإن كان مسكرًا جلدته فجلده عمر الحد تامًا‏)‏‏.‏

رواه النسائي والدارقطني‏.‏

6 - وعن أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه في شرب الخمر قال‏:‏ ‏(‏إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون جلدة‏)‏‏.‏

رواه الدارقطني ومالك بمعناه‏.‏

7 - وعن ابن شهاب أنه سئل عن حد العبد في الخمر فقال‏:‏ ‏(‏بلغني أن عليه نصف حد الحر وإن عمر وعثمان وعبد اللّه بن عمر جلدوا عبيدهم نصف الحد في الخمر‏)‏‏.‏

رواه مالك في الموطأ‏.‏

حديث أبي سعيد الأول أخرجه الترمذي وحسنه قال وفي الباب عن علي وعبد الرحمن بن أزهر وأبي هريرة والسائب وابن عباس وعقبة بن الحارث انتهى‏.‏

وأثر أبي جعفر محمد بن علي فيه انقطاع‏.‏

وحديث أبي سعيد الثاني أصله في صحيح مسلم وأخرج الشيخان عن جابر‏:‏ ‏(‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعًا وأن ينبذ الرطب والبسر جميعًا‏)‏ وأخرج نحوه مسلم عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس واتفقا عليه من حديث أبي قتادة بلفظ‏:‏ ‏(‏نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يجمع بين التمر والزهو والتمر والزبيب ولينبذ كل منهما على حدة والنهي عن الانتباه في الدباء‏)‏ أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لوفد عبد القيس أنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير‏)‏ وأخرج نحوه الشيخان من حديث ابن عباس في قصة وفد عبد القيس ولهما أيضًا عن أنس‏:‏ ‏(‏نهى عن الدباء والمزفت‏)‏ وللبخاري عن ابن أبي أوفى‏:‏ ‏(‏نهى عن المزفت والحنتم والنقير‏)‏ ولهما عن علي في النهي عن الدباء والمزفت‏.‏ ولعائشة عند مسلم‏:‏ ‏(‏نهى وفد عبد القيس أن ينتبذوا في الدباء والنقير والمزفت والحنتم‏)‏ انتهى‏.‏ والدباء هو القرع والحنتم هو الجرار الخضر والنقير هو أصل الجذع ينقر ويتخذ منه الإناء والمزفت هو المطلي بالزفت والمقير هو المطلي بالقار‏.‏

وأثر عمر رواه النسائي من طريق الحارث بن مسكين وهو ثقة عن ابن القاسم يعني عبد الرحمن صاحب مالك وهو ثقة أيضًا عن مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد عن عمر والسائب له صحبة‏.‏

وأثر علي الآخر أخرجه أيضًا الشافعي وهو من طريق ثور بن زبد الديلي ولكنه منقطع لأن ثورًا لم يلحق عمر بلا خلاف ووصله النسائي والحاكم فروياه عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة ولم يذكر ابن عباس وقد أعل هذا بما تقدم في أول الباب أن عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر قال في التلخيص‏:‏ ولا يقال يحتمل أن يكون علي وعبد الرحمن أشارا بذلك جميعًا لما ثبت في صحيح مسلم عن علي في جلد الوليد بن عقبة أنه جلده أربعين وقال‏:‏ جلد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي فلو كان هو المشير بالثمانين ما أضافها إلى عمر ولم يعمل لكن يمكن أن يقال أنه قال لعمر باجتهاد ثم تغير اجتهاده ولهذا الأثر طرق منها ما تقدم ومنها ما أخرجه الطبري والطحاوي والبيهقي وفيه أن رجلًا من بني كلب يقال له ابن وبرة أخبره أن خالد بن الوليد بعثه إلى عمر وقال له إن الناس قد انهمكوا في الخمر واستخفوا العقوبة فقال عمر لمن حوله ما ترون فقال علي فذكر مثل تقدم‏.‏

وأخرج نحوه عبد الرزاق عن عكرمة وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال‏:‏ شرب نفر من أهل الشام الخمر وتأولوا الآية الكريمة فاستشار فيهم فقلت أرى أن تستتيبهم فإن تابوا ضربتهم ثمانين وإلا ضربت أعناقهم لأنهم استحلوا ما حرم فاستتابهم فتابوا فضربهم ثمانين ثمانين‏.‏

وأثر ابن شهاب فيه انقطاع لأنه لم يدرك عمر ولا عثمان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإنه لو مات وديته‏)‏ في هذا الحديث دليل على أنه إذا مات رجل بحد من الحدود لم يلزم الإمام ولا نائبه الأرش ولا القصاص إلا حد الشرب‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في ذلك فذهب الشافعي وأحمد بن حنبل والهادي والقاسم والناصر وأبو يوسف ومحمد إلى أنه لا شيء فيمن مات بحد أو قصاص مطلقًا من غير فرق بين حد الشرب وغيره وقد حكى النووي الإجماع على ذلك وفيه نظر فإنه قد قال أبو حنيفة وابن أبي ليلى أنها تجب الدية على العاقلة كما حكاه في البحر وأجابا بأن عليًا لم يرفع هذه المقالة إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بل أخرجها مخرج الاجتهاد وكذلك يجاب عن رواية عبيد بن عمير أن عليًا وعمر قالا‏:‏ من مات من حد أو قصاص فلا دية له الحق قتله ورواه بنحوه ابن المنذر عن أبي بكر واحتجا بأن اجتهاد بعض الصحابة لا يجوز به إهدار دم امرئ مسلم مجمع على أنه لا يهدر وقد أجيب عن هذا بأن الهدر ما ذهب بلا مقابل له ودم المحدود مقابل للذنب ورد بأن المقابل للذنب عقوبة لا تفضي إلى القتل وتعقب هذا الرد بأنه تسبب بالذنب إلى ما يفضي إلى القتل في بعض الأحوال فلا ضمان وأما من مات بتعزيز فذهب الجمهور إلى أنه يضمنه الإمام وذهبت الهادوية إلى أنه لا شيء فيه كالحد‏.‏ وحكى النووي عن الجمهور من العلماء أنه لا ضمان فيمن مات بتعزيز لا على الإمام ولا على عاقلته ولا في بيت المال وحكى عن الشافعي أنه يضمنه الإمام ويكون على عاقلته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم يسنه‏)‏ قد قدمنا الجمع بين هذا وبين روايته السابقة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جلد أربعين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجلده ثمانين‏)‏ هذا يخالف ما تقدم في أول الباب أن عليًا أمر بجلده أربعين وظاهر هذه الرواية أنه جلده بنفسه وأن جملة الجلد ثمانون وقد جمع المصنف بين الروايتين بما ذكره من رواية أبي جعفر ولا بد من الجمع بمثل ذلك لأن حمل ذلك على تعدد الواقعة بعيد جدًا فإن المحدود في القصتين واحد وهو الوليد بن عقبة وكان ذلك بين يدي عثمان في حضرة علي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نشوان‏)‏ بفتح النون وسكون الشين قال في القاموس‏:‏ رجل نشوان ونشيان سكران بين النشوة انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في دباءة‏)‏ بضم الدال وتشديد الباء الموحدة واحدة الدباء وهي الآنية التي تتخذ منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نهز‏)‏ بضم النون وكسر الهاء بعدها زاي وهو الدفع باليد قال في القاموس‏:‏ نهزه كمنعه ضربه ودفعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ونهى عن الزبيب والتمر‏)‏ يعني أن يخلطا فيه دليل على أنه لا يجوز الجمع بين الزبيب والتمر وجعلهما نبيذًا وسيأتي الكلام على ذلك في كتاب الأشربة إن شاء اللّه تعالى قوله فزعم أنه شرب الطلاء هي الخمرة اللذيذة على ما في القاموس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا شرب سكر‏)‏ الخ اعلم أن معنى هذا الأثر لا يتم إلا بعد تسليم أن كل شارب خمر يهذي بما هو افتراء وأن كل مفتر يجلد ثمانين جلدة والكل ممنوع فإن الهذيان إذا كان ملازمًا للسكر فلا يلازمه الافتراء لأنه نوع خاص من أنواع ما يهذو به الإنسان والجلد إنما يلزم من افترى افتراء خاصًا وهو القذف لا كل مفتر وهذا مما لا خلاف فيه فكيف صح مثل هذا القياس فإن قال قائل أنه من باب الإخراج للكلام على الغالب فذلك أيضًا ممنوع فإن أنواع الهذيان بالنسبة إلى الافتراء وأنواع الافتراء بالنسبة إلى القذف هي الغالبة بلا ريب وقد تقرر في علم المعاني أن أصل إذا الجزم بوقوع الشرط ومثل هذا الأمر النادر مما يبعد الجزم بوقوعه باعتبار كثرة الأفراد المشاركة له في ذلك الاسم وغلبتها وللقياس شروط مدونة في الأصول لا تنطبق على مثل هذا الكلام ولكن مثل أمير المؤمنين رضي اللّه عنه ومن بحضرته من الصحابة الأكابر هم أصل الخبرة بالأحكام الشرعية ومداركها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بلغني أن عليه نصف حد الحر‏)‏ قد ذهب إلى التنصيف للعبد في حد الزنا والقذف والشرب الأكثر من أهل العلم وذهب ابن مسعود والليث والزهري وعمر بن عبد العزيز إلى أنه يستوي الحر والعبد في ذلك لعموم الأدلة ويجاب بأن القرآن مصرح في حد الزنا بالتنصيف قال اللّه تعالى ‏{‏فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب‏}‏ ويلحق بالإماء العبيد ويلحق بحد الزنا سائر الحدود وهذا قياس صحيح لا يختلف في صحته من أثبت العمل بالقياس‏.‏